البراند: الرمز التجاري والدلالة الثقافية

كيف تصنع الشركات معنى الحياة في العصر الحديث

\"يشربون-الكوكاكولا\"
ملاحظة: يُشكل على المختصين ترجمة كلمة Brand حيث أن الترجمات المتداولة مثل “هوية تجارية” أو “علامة تجارية” أو “ماركة” لا تحمل نفس المعنى الشامل الذي يحمله مفهوم Brand. وعلى الرغم من قيام أحد المختصين بطرح محاولة جيدة لترجمة Brand ب “الوسم” و Branding ب”الأيسام” إلى أن هذه الترجمة لم تتداول بعد على نطاق واسع. لذلك سأستخدم في هذا المقال الكلمة الإنجليزية “براند” للتعبير عن المفهوم الشامل للعلامة التجارية وما يصاحبها من شعار وهوية وألوان وتجربة مادية ومعنوية وغيرها من العوامل التي تصنع الصورة الذهنية للكيان.


\"nike

لعله لا يوجد بيننا أحد يجهل شعار شركة نايكي أو لم يره من قبل. يذكر فيل نايت مؤسس شركة نايكي  في سيرته الذاتية بأن شعار شركة نايكي، أحد أبرز وأشهر وأهم الشعارات التجارية في التاريخ، قامت بتصميمه طالبة متدربة مقابل 35 دولار فقط، حيث كان كل ما يحتاجه هو شعار لشركته في بدايتها في عام 1971م.

\"1caa032c47f63d50902b9d34492e1303\"

أما شعار شركة آبل الحالي أحد أعلى العلامات التجارية قيمة على الإطلاق (التفاحة المقضومة) فتكثر القصص حول سبب وجود القضمة فيه، ولعل أشهره تفسير بأنها يرمز لقصة تفاحة آدم عليه السلام. ولكن مؤرخ سيرة مؤسس آبل ستيف جوبز يذكر بأن القضمة ليس لها مغزى محدد، وإنما أصبحت هذه القصة تمثل أسطورة مرتبطة بتاريخ الشركة.

Semiotics: علم العلامات

\"getty_Ferdinand_de_Saussure-464434065-56af9c6b3df78cf772c6a7241-2fd6bb8171cc413a94e6b4cbfad89c0a\"

في نهاية القرن التاسع عشر طرح عالم اللغويات السويسري فيرديناند دو ساسور نظرة متفردة لطريقة تفاعل المجتمع مع الرموز والدلالات، حيث حاول فهم العلاقة ما بين \”الكلمة\” كرمز يتكون من أحرف مجردة  ومابين \”الدلالة\” التي تضيف للكلمة المعنى، فساهم بذلك في تأسيس علم العلامات (Semiotics). يذكر ساسور بأن العلامة هي أي رمز يحمل معنى محدد (دلالة) والتي تنشأ في الغالب بشكل عشوائي وغير ممنهج Arbitrary، فلا توجد قواعد تحتّم على المجتمع تسمية الشيء بطريقة معينة، إنما تحمل العلامات معناها بحسب السياق الثقافي والاجتماعي الذي تنشأ وتتداول فيه.

مثلاً فإن حرف الألف (أ) يستمد دلالته ومعناه بسبب اتفاق مجموعة من الناس على أنه يمثل صوتا محدداً. وعندما نجمع الأحرف التالية (ج، م،ل) في كلمة واحدة \”جمل\” فهذه الكلمة تحمل معنى لأن المتحدثين باللغة العربية اتفقوا على أنها ترمز لحيوان معين. بالتالي من دون هذا المعنى المضافة تكون الرموز والكلمات مجرد مقاطع صوتية لا معنى حقيقي لها.

هذا العلامات لا تقتصر على الكلمات والرموز الثقافية فقط بل تشمل أي علامة يتداولها المجتمع ومنها البراند التجاري كبراند نايكي وبراند آبل.

البراند: رمز ودلالة

إن نظرنا إلى البراند من منظور المعنى والدلالة سنجد بأنه عبارة عن علامة تحمل في داخلها مجموعة رموز، كالشعار والإسم والألوان والهوية وغيرها، تتصف هذه الرموز بالاتساق وتعبر عن كيان ما، وتحمل دلالات ومعانٍ يتم تشكيلها بشكل مقصود أو غير مقصود في ذهن أي فرد يتفاعل مع البراند. لكن في الوقت الذي يقول فيه دو ساسور بأن الدلالات الثقافية تنشأ بشكل عشوائي Arbitrary في الغالب إلا أن دلالات البراند يتم خلقها لكي تحقق مصلحة الجهة أو المنتج الذي يعبر عنه البراند، سواء كانت المصلحة تجارية أو غيرها.  وهذا يحيلنا إلى التساؤل حول الدوافع والطريقة والأغراض التي تصنع الشركات من أجلها البراند وكيف تسعى الشركات من خلالها إلى التأثير على الفرد والمجتمع سعياً لتحقيق مصالحها.

التسويق: من إشباع الحاجة إلى خلق المعنى

\"kotler-wont-retire-main\"

يذكر رائد علم التسويق الحديث فيليب كوتلر بأن علم التسويق تطور خلال سنوات عمره التي تقارب المائة عام، ففي بدايته كان التسويق يعنى بالمنتج الذي يعمل على إشباع حاجات عملية عند أفراد المجتمع، أما اليوم فإن التسويق يتمحور حول البراند الذي يسعى إلى خلق معانٍ للحياة ومظاهرها في ذات الفرد. هذا التحول في العملية التسويقية يعكس أمرين مهمين: الأول هو التغير الثقافي في المجتمع الغربي الذي حصل فيه هذا التحول حيث ظهرت فيه الحاجة إلى استلهام المعنى من إطارات ثقافية مختلفة عن الإطارات التقليدية الصلبة (الدين، الجماعة، التقاليد…) .والأمر الثاني هو حجم تأثير الشركات في تشكيل تصورات الفرد والمجتمع حول الحياة بطريقة أصبحت فيها الشركات هي من تقدم إجابة على الأسئلة الكبرى في الحياة بدلا من الدين والفلسفة والتقاليد.


البراند: مصدر المعنى في الحياة الحديثة

\"santacoke\"

يضرب المثل في الغرب على تأثير الشركات في صنع المعنى بما في ذلك المعنى الديني من خلال الطريقة التي أشهرت بها شركة كوكاكولا شخصية بابا نويل وجعلته رمز شعبي يرتبط باحتفالات الأعياد المسيحية.

\"artworks-000224605022-0j4dlo-t500x500\"

وعلى شاكلة كوكاكولا أصبحت شركة زين تقوم بصنع المعنى المرتبط بشهر رمضان وعيد الفطر من خلال إعلاناتها في هاتين المناسبتين.

ترسل شركة زين رسائل عن السلام والعطاء والكرم وغيرها من القيم، وهي رسائل جيدة بشكل عام لولا أنها جزء من أنشطة الشركة لتعزيز البراند الخاص بها في ذهن المتلقي بهدف تحصيل الربح المادي من المناسبة الروحانية.

\"Howard-Schultz-Farewell-Pike-Place-Market\"

وستاربكس هي مثال حي على قوة تأثير الشركات في صنع التصورات في أذهان الفرد. فقد قام هوارد شوارتز بتأسيس ستاربكس لكي ينقل للمستهلك الأمريكي تجربة المقاهي الإيطالية العريقة وثقافة القهوة فيها. لكن في الواقع فإن الفرد عندما يدخل إلى مقهى ستاربكس فهو لا يعيش ثقافة القهوة الإيطالية بحقيقتها بل بالطريقة التي صنعتها ستاربكس وأوهمت العميل بها.


 نعيش في منظومة ثقافية عالمية يقل فيها الإشباع الروحي تدريجياً لأسباب مختلفة، مما يخلق فراغاً لدى الفرد يتم إشباعه حاليا بالمنتجات الاستهلاكية، والبراند يلعب دورا أساسيا في خلق الدلالة الوهمية التي توحي بأن المنتج قادر على إشباع الفراغ الروحي في داخل الفرد، وهذا ما يسعى صانعوا البراند لبناءه، وهذا هو الدافع المحرك للإنتاج الاستهلاكي.

إن الاهتمام اليوم بعملية صنع البراند يأتي ذلك من منطلق أن الكيان أو المنتج يجب أن يقدم قيمة تلامس كوامن مهمة في نفس العميل وأن تشبع احتياجات ورغبات نفسية يفتقدها المستهلك، وكلما استطاع البراند أن يخلق المعنى الذي يلامس الفئة المستهدفة بشكل أعمق كلما ازدادت فرص نجاحه المادي. ويتمثل هذا الاهتمام المتزايد في واقعنا المحلي من خلال انتشار الوكالات الابداعية المتخصصة في البراندنق وارتفاع أسعارها حيث لا تقل تكلفة صنع براند بشكل متكامل عن ربع مليون ريال. ويتخلل هذه العلمية صنع \”فسلفة\” البراند و\”شخصيته\” و\”قيمه\” و\”جوهره\” و\”أسلوب كلامه\” و\”طريقة تفكيره\”، وغيرها من العناصر التي تهدف إلى خلق تصور ذهني محدد حول المنتج.

إن هذا الاهتمام المتزايد بالبراند عالمياً ومحليا ً في الآونة الأخيرة له أسباب الثقافية والاجتماعية وله آثاره كذلك على الفرد والمجتمع، حيث يعبر عن ازدياد التنافس الاستهلاكي والذي يغذيه الاعتقاد الغير واعي عند الفرد بأن احتياجاته المعنوية يمكن إشباعها من خلال الاستهلاك المادي. وبما أن التجربة الاستهلاكية هي تجربة مصطنعة فإنها بالتالي تجعل الفرد يعيش في واقع مصطنع تخلقه له الشركات التي توهمه مثلاً بأنه يعيش تجربة شرب قهوة في مقهى عتيق في أحد أزقة روما وهو في الحقيقة يعيش تجربة صنعتها له خلية عمل في مدينة سياتل يعمل فيها أعتى خبراء صنع \”البراند\” و\”تجربة العميل\” بهدف تحقيق الفائدة القصوى من رغبة الفرد التي خلقتها له الشركة في الأساس، وحولتها إلى احتياج وهمي لأن يشرب القهوة كما يشربها الإيطالي في بلده باحتساء \”كارميل ماكياتو\” بحجم \”غرانديه\”، والذي لا يعرفه أي إيطالي يعيش تجربته الاصيلة يوميا التي تحتوي على جذور متأصلة في ثقافة المجتمع، وهي تجربة صُنعت على مدى أجيال بشكل تراكمي كاستجابة لظروف واحتياجات وعوامل خاصة بتلك الثقافة لا تمس من يعيش في الرياض أو طوكيو أو لوس أنجلس بأي شكل من الأشكال.

✍️ بقلم:

سالم باعارمة

أحدث التدوينات

30 يونيو 2024

Scroll to Top