تحدث الفيلسوف والناقد الثقافي البرازيلي من أصل تشيكي ڤِيلِم فْلَسَر في كتابه “نحو فلسفة في التصوير الفوتوغرافي” عن أثر التصوير الفوتوغرافي في تشكيل معنى “الحقيقة” في المجتمع الحديث، فيرى فْلَسَر أن اختراع الكاميرا يماثل في أهميته اختراع الكتابة الخطية من ناحية أنها غيرت جذرياً من طريقة تعبيرنا عن الواقع وإدراكنا له، فالصورة هي وسيلة يعبر بها المصور عن نظرته للحقيقة، ويشكّل بها المشاهد رؤيته للعالم وإدراكه للحقائق.
ولكن هل تنقل لنا الصورة الواقع بشكل موضوعي بلا تحيز؟ يرى فْلَسَر بأن الصورة لا تمثل نقلاً موضوعياً للواقع كما نظن بل هي مُخرَج إبداعي ناتج من تفاعل لحظي معقد ما بين المصور وآلة التصوير وموضوع الصورة. بالتالي لا تُعبر الصورة عن زمان معين ومكان محدد، بل تجرد اللحظة من عنصر الزمان وتجرد الموضوع من أبعاد المكان وتنقل المشهد للمشاهد عبر مخيال المصور مقيداً بالمواصفات التقنية للكاميرا وأدوات طباعة الصورة ووسائل نشرها.
ويرى فْلَسَر أن أداة التصوير تلعب دوراً محورياً في تشكيل نظرتنا للحقيقة، فالكاميرا تضع الشروط المسبقة للصورة، فالمصور يتحرك بحدود ما تسمح له قدرات الكاميرا ومواصفاتها سواء كانت المواصفات الظاهرة مثل حجم فتحة العدسة وسرعة الغالق، أو المواصفات الخفية كالعمليات الإلكترونية والميكانيكية الدقيقة بداخل الكاميرا، بالتالي تضع هذه المواصفات قيوداً على حرية المصور في التعبير عن تصوره للواقع كما يشاء.
ماهي تبعات هذا الفهم للتصوير؟ ينتج عن ذلك إدراكنا بأن الصورة ليست مجرد تجميد للحظة بل هي أداة تعبير مرئية تتأثر بأحوال مصورها ونواياه وبالمواصفات التقنية لأدوات التصوير وغيرها من الظروف المتغيرة المحيطة بالعناصر الثلاث للصور (المصور، أدوات التصوير، الموضوع).
وهذا المفهوم ينطبق على كل المواد المرئية على حد سواء، سواء كانت صوراً أو مشاهد متحركة، ومع انتشار وسائل التصوير الرقمي والتدفق الهائل للصور في هذا العصر أصبحت المواد الإعلامية هي واسطة الإنسان لإدراك الواقع سواء كانت معروضة في التلفاز أو منشورة في مواقع التواصل أو واردة إلينا عبر تطبيقات المحادثات، وبما أن كل مادة مرئية تعكس نظرة صانعها للواقع، وبما أن فيضان الصور والمقاطع الذي يتسم به العصر الحديث يباغت الإنسان فلا يسمح له بالتمعن والتفكر فيما يشاهده استكشاف مضامينه وإدراك حقيقة المعنى الذي أراد صانعه إيصاله، كل هذا يؤدي إلى صنع واقع مبعثر، متضارب الغايات، مشتت المعنى، يعجز فيه الإنسان عن فهم حقيقته، فهو يلجأ للصور والمشاهد سعياً لإدراك الحقائق المنقولة عبرها ولكن ينتهي بأن تصبح ظاهر الصورة هي الحقيقة في نظره.