أمستردام – ٤ أكتوبر
(المتحف الوطني Rijks Museum)
هولندا بلد صغير يقع على أرض لا تملك المقومات الطبيعية المثالية للعيش، حتى أن الرومان الذين المعروفين بحرصهم على توسيع البقعة الجغرافية لإمبراطوريتهم لم يكترثوا لضمهم لها. ولكن هولندا سيصبح لها أهمية كبيرة مع مطلع العصر الحديث حيث لعبت دوراً كبيراً في تشكيل واقعنا المعاصر، فكل ما يلي يرتبط بشكل أو بآخر بهولندا: الرأسمالية، الليبرالية، الاستعمار العسكري/التجاري، تطور تقنيات الملاحة، الفن المعاصر، وأخيراً الكرة الشاملة الذي ظهرت على كرويف ورفاقه..
أمستردام مدينة جميلة، يبدو أن أغلب مبانيها يعود إلى القرن السابع أو الثامن عشر، ومازالت محافظة على طابعها المعماري المميز، مدبنة قابلة للاستكشاف مشياً والتسكع بين أزقتها وجداول الماء المنتشرة فيها. يسخر الأمسترداميون ممن يظن بأن فينيسا تملك جداول أكثر من أمستردام، ويسمون فينسيا أمستردام الجنوب وليس العكس.
وصلت إلى الفندق عند الساعة الـ٩ صباحاً. وضعت أغراضي في الفندق ثم انطلقت للتجول واستكشاف المدينة.
سكنت بالقرب من منطقة المتاحف على مسافة ٥ دقائق مشي من أبرز المتاحف فيها، ويستغرق الوصول منها إلى كافة الأماكن المهمة أقل من ٣٠ دقيقة مشياً، علماً بأن المدينة بأكملها حية وتجد حياة وأماكن مثيرة للاهتمام في كل مكان وأنت تتجول مشياً.
أول ما بحثت عنه هو مقهى يقدم قهوة مختصة، فوجدت مقهى لطيف يلبي الغرض على بعد ١٠ دقائق مشياً اسمه Bocca.
مضيت بعدها لاستكشاف المدينة مشياً.
وجدت كشك يبيع وجبة هولندية سريعة شهيرة، عبارة عن ساندويتش سمك نيء مع مخلل وبصل، قررت المغامرة وتجربتها، لكن لم استطعت إكماله بعد اللقمة الثانية!!
أول ما سيلاحظه المرء هو انتشار الدراجات واتخاذ سكان المدينة لها وسيلة رئيسية للتنقل، بل أن لهم الحق والأولوية في المرور متقدمين حتى على المشاة!!
وقعت مصادفة على محل صغير يبيع وافل هولندي تقليدي، وتبين أنه من محل شهير. لم يعجبني الوافل كثيراً حيث وجدته دسم وشديد الحلاوة.
ثم وقعت على محل لبيع الكتب العتيقة. أحب هذه النوع من المحلات حيث تجد لديها نسخ قديمة مثيرة للاهتمام. سألت صاحبة المحل إن كانت تملك أي كتب عربية فأخرجت لي جزء من ترجمة لكتاب الحيوان لأرسطو من بداية القرن العشرين. بحثت عن كتب لأبرز فلاسفة هولندا، سبينوزا وأورساموس, بالإنجليزية لعلي أظفر بنسخة عتيقة ولكن للأسف ما وجدت.
ثم وجدت في طريقي محل لتحميض الأفلام القديمة، من الجميل روية مثل هذه المحلات. وجدت لديهم كاميرا فلمية فورية فكرت اشتريها ثم أحمض الفيلم لديهم ولكن العاملة أخبرتني بأن تحميض الفيلم يستغرق ١٥ يوم.
المتحف الوطني Rijks Museum
عند الساعة الثانية كان موعدي لبدأ جولة مع مرشد سياحي في متحف رايكس Rijks Museum والذي تعني حرفيا متحف الدولة State Museum.
وزيارة المتاحف مع مرشد سياحي مفيدة للغاية حيث يدلك المرشد على أبرز الأعمال ويقدم معلومات تاريخية عنها وعن الأحداث المصاحبة لها، ويوفر الكثير من الوقت والجهد.
يعتبر المتحف من أهم المتاحف في أوربا، ويقع في مبنى يجله الهولنديون كثيراً ويعتبرونه أهم مبنى فيها (أهم من القصر الملكي أو البرلمان). يضم المتحف أعمال فنية ثمينة مقسمة بالحقب الزمانية، حيث خُصص الدور الأرضي لأعمال العصور الوسطى، وثم دور كامل مخصص للقرنين السابع عشر والثامن عشر، ثم دور مخصص للقرن التاسع عشر، ودور صغير أعمال للقرن العشرين (يوجد متحف آخر مهم للفنون الحديثة والمعاصرة في أمستردام زرته في اليوم التالي).
بدأ العصر الذهبي للفن التشكيلي في هولندا في القرن السابع عشر واستمر حتى فان غوخ والذي توفي في ال١٨٩٠، وذلك بفضل رموزه الأربعة (روبنز، فيرمير، رامبرانت، فان قوخ)، ويمثل روبنز حلقة الوصل مع عصر النهضة الفنية في إيطاليا حيث تتلمذ على يد الإيطالي الشهير كرفاجيو، ونقل تقنيات وخبرات الإيطاليين لشمال أوربا.
في مدخل المعرض تجد منطقة مخصص للحديث عن تصوير الملاحة في الفن قديماً، حيث يعزو الهولنديين الفضل في ازدهار بلدهم إلى قدراتهم الملاحية المتفوقة والتي مكنتهم من الإبحار في إرجاء العالم واستعمار أراضه وإنشاء شبكة تجارية معقدة في أرجاء العالم.
هولندا كذلك عرفت بالحرية الدينية في زمن الصراعات الدينية الدموية في أوربا، حيث قرر الهولنديون بعد تجربة مريرة تجنب الصراعات والتسامح مع الأقليات الدينية، هذا الأمر جعل اليهود المقيمين في أسبانيا والبرتغال يتخذونها ملجأ لهم هرباً من اضطهاد الأسبان لغير المسيحيين بعد استيلائهم على الأندلس من المسلمين. وعلى إثر هذه العوامل ظهر الفيلسوف اليهودي البارز صاحب الأثر الكبير في الفكر الغربي، باروخ سبينوزا، كبير الملاحدة كما سيعرف لاحقاً.
لوحة لWillem van de Velde من عام ١٦٥٧ مرسومة بالحبر، تصور معركة بحرية بين الهولنديين والإنجليز . حجم التفاصيل فيها مذهل للغاية:
مجسم كرة أرضية يعود لعام ١٦٤٥، وتظهر الجزيرة العربية بتفاصيل دقيقة:
مكتبة المتحف غاية في الروعة، تصفح الكتب متاح للباحثين:
من الأعمال الشهيرة المعروضة في المتحف عمل van der Helst يعود لعام ١٦٤٣ والذي يمثل بورتيريه لمجموعة من الجنود الذين اشتركوا في لوحة واحدة. وهذا يشير إلى أنهم كانوا ميسوري الحال ولكن ليس بالقدر الذي يمكنهم من تحمل تكاليف لوحة خاصة بكل واحد منهم لذلك اشتركوا جمعيا في لوحة واحدة:
عمل شهير لفيرمير يعود لعام ١٦٦٠ لفتاة تسكب الحليب:
وكذلك عمل لفيرمير بعنوان رسالة حب:
هذه الأعمال تمثل التوجه الفني في موضوع اللوحات الذي بدأ في الشكل حينها ويتمثل في رسم الحياة اليومية لعامة الشعب، بعد أن كان تركيز الفنانين يتمثل في الرموز الدينية أو الأثرياء، وتلك يعود لأسباب كثيرة منها الرخاء الاقتصادي الذي كانت تمر به هولندا حينها والذي جعل الفنانين في حالة مادية جيدة وغير مضطرين لكسب الأموال من الكنيسة أو الطبقة البرجوازية فتوفر لهم متسع من الحرية لتجربة مواضيع جديدة.
نأتي إلى رامبرانت، فمن أعماله الشهيرة المعروضة في المتحف العروس اليهودية الذي يعود إلى ١٦٦٥:
وبورتريه شخصي معتمراِ فيه عمامة على طريقة الأتراك، ويبدو أن التشبه بملابس الأتراك كان سائدا حينها فمن أشهر الأعمال الهولندية على الإطلاق هو عمل فيرمير “الفتاة ذات الحلق اللؤلؤي” المعروض في مدنية لاهاي الهولندية وهي تردي ما يبشه المنديل في رأسها:
أما العمل الاشهر في المتحف على الإطلاق فهو لوحة رامبرانت The Night Watch والذي يصور قائد عسكري مع مجموعة من حاشيته في حالة تأهب لخوض قتال، ولكن لأسف لا يمكن مشاهدة العمل عن قرب حيث يمر بمشروع صياتة ضخم، الجميل أن صيانته تقام أمام الجمهور مباشرة:
وهذه صورة من الإنترنت:
ولأنه لا يمكن التطرق للفن في هولندا من دون ذكر فان غوخ، فإن المتحف يحتوي على ٥ أعمال فقط لفان غوخ وهي ليست من أبرز أعماله حيث أن الهولندينو من فرط تقديرهم لهذا الفنان أقاموا له متحفاً ضخما خاصا به، خصصت له زيارة خاصة.
يتضمن الدور الثالث من المعرض قسماً صغيراً للفن الحديث، وكذاك يوجد معرض آخر ضخم مخصص لأعمال الفن الحديث والمعاصر.
ويتضمن المتحف كذلك قسماً صغيراً للفن الإسلامي، يحتوى على عدد من المقتنيات من تركيا وبلاد فارس:
قضيت حوالي ٤ ساعات في المتحف، خرجت وقد بلغ بي الانهاك والجوع مبلغه، فوجدت مطعماً صغيراِ يقدم طعام هولندي تقليدي لذيذ، تناولت فيه العشاء وانتهى يومي الأول في أمستردام بذلك.